ما إن انتهت مفاوضات الرياض التي استمرّت خمسة أيام، حتى بعثت الميليشيا الحوثية بعدّة رسائل عسكرية وسياسية تكرّس مساعيها لفرض تسوية تحقّق شروطها تستند إلى سياسة الأمر الواقع والتطورات التي شهدها ميدان الحرب، وتستغل التحرّكات الإقليمية والدولية الساعية إلى إنهاء الحرب وتحقيق سلام شامل ودائم لفرض سياسة الأمر الواقع.
وتؤكد تلك المفاوضات وجولات التفاوض بين الحكومة الشرعية وميليشيا الحوثي خلال سنوات الحرب سعي الأخيرة لاتفاق يضمن مصالحها فقط ويحل كل المشاكل العالقة مثل قضايا رواتب موظّفي الدولة ومطار صنعاء الدولي وميناء الحديدة دون أن يترتّب عليه أي التزام من قبلها تجاه الشعب اليمني ومصالحه الوطنية العليا، وفي الوقت نفسه بقاء خطوط المواجهة العسكرية ثابتة دون تغيير مع استمرار سيطرتهم على العاصمة صنعاء والمحافظات وكل مقوّمات السلطة والقوة، علاوة على تنصّل الميليشيا من تنفيذ كل الاتفاقات السابقة.
العرض العسكري
رسالة الحوثيين الأولى تمثّلت في العرض العسكري الكبير وغير المسبوق في الـ 21 من سبتمبر الماضي الذي جاء بعد يومين فقط من عودة وفد الحوثيين من العاصمة السعودية الرياض والذي يؤكد مساعي الحوثيين الذين يتم التعامل معهم كسلطة "أمر واقع" للهيمنة واحتكار السلطة ما أمكن لهم ذلك ورفض تقديم أي تنازلات وإقصاء الخصوم، وفرض منطق القوة وسلام الأمر الواقع الذي يحقّق شروطهم وأهدافهم في الاستحواذ والسيطرة وفرض أجندتهم الطائفية مستفيدين من الانفراجة اللافتة والخطوات المتسارعة لتطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران بعد قطيعة استمرّت 7 سنوات.
وشهد العرض العسكري الذي أقيم بميدان السبعين بصنعاء بمناسبة الذكرى التاسعة لاجتياح الميليشيا الحوثية صنعاء ومحافظات عدّة وإسقاط الدولة والحكومة الشرعية والاستيلاء على السلطة بقوة السلاح، مشاركة تشكيلات كبيرة من القوات البرية والجوية والبحرية وترسانة عسكرية هائلة تمثّلت في طائرات هيلوكوبتر وزوارق بحرية وصواريخ باليستية ومجنّحة لا تمثّل تهديداً لأمن اليمن فقط بل دول الجوار، إذ صرّح المتحدّث العسكري للحوثيين يحيى سريع بأن قواته لن تتردّد في "تسديد أقسى الضربات دفاعاً عن اليمن الحر المستقل".
وزعم المتحدّث العسكري للحوثيين دقة إصابة الصواريخ المعروضة للهدف وإمكانية إطلاقها من أي نقطة في البر إلى أي نقطة في البحر على امتداد المياه الإقليمية اليمنية في البحرين العربي والأحمر وخليج عدن، ما يشكّل تهديداً للتجارة عبر هذه المنطقة الحيوية من العالم وخطراً على الملاحة الدولية.
وفي بلد كان بالفعل واحداً من أفقر البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حتى قبل اندلاع الحرب أواخر مارس عام 2015، ينفق الحوثيون على تلك الأسلحة التي يزعمون أنها صناعة يمنية بالكامل ملايين الدولارات.
ويواجه أكثر من 21.6 مليون يمني، أي 75% من سكّان اليمن ممّن أرهقتهم سنوات الحرب الثمانية احتياجات إنسانية ملحّة. ويعاني 17 مليون يمني من انعدام الأمن الغذائي، في الوقت الذي تحرم الميليشيا الحوثية الموظّفين من رواتبهم والمتقاعدين من معاشاتهم منذ سبع سنوات بينما تستحوذ على إيرادات الموازنة العامة للدولة والصناديق الخاصة والضرائب والجمارك والموانئ والمنافذ البرية، وإيرادات المشتقّات النفطية والغاز المنزلي ورسوم الخدمات.
الهجوم على الحدود السعودية
رسالة الحوثيين الثانية التي أكدت عدم جديتهم أو رغبتهم في تحقيق السلام، واستعدادهم لاستئناف الحرب في أي لحظة كان الهجوم التصعيدي المروّع بطائرات مسيّرة مفخّخة، استهدف أفراد بالقوات المسلّحة البحرينية العاملة في التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، على الحدود الجنوبية للسعودية.
الهجوم الذي وقع في الـ 25 من سبتمبر أدّى إلى مقتل أربعة أشخاص وإصابة آخرين، ولقي إدانة من المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن هانس جروندبرغ الذي اعتبر أن أي تجدّد للتصعيد العسكري الهجومي يمكن أن يجرّ اليمن مجدّداً إلى دائرة من العنف وأن يقوّض جهود السلام الجارية. ورأى أن "استمرار اندلاع القتال يبرهن على هشاشة الوضع في اليمن".
وشدّد المبعوث الخاص على الحاجة إلى اتخاذ خطوات حاسمة نحو وقف إطلاق نار مستدام في جميع أنحاء البلاد واستئناف عملية سياسية جامعة لإنهاء النزاع.
كما شدّد مجلس الأمن الدولي في بيان على أن أي تصعيد لن يؤدّي سوى إلى مفاقمة معاناة الشعب اليمني.
وجدّد أعضاء مجلس الأمن التأكيد على الحاجة لاتخاذ خطوات حاسمة باتجاه وقف إطلاق النار الدائم، وأكدوا على دعمهم القوي لجهود التسوية السلمية وإنهاء معاناة الشعب اليمني.
تغييرات الحوثيين "الجذرية"
الرسالة الثالثة للحوثيين كانت سياسية وظهرت ملامحها في كلمة لزعيمها عبد الملك الحوثي بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، إذ تخطّط الجماعة للاقتراب أكثر من داعميها في طهران من خلال تكريس نظام ولاية الفقيه وإلغاء الدستور والتحرّر من أي قيود تفرضها القوانين واللوائح أو أي انتخابات ديمقراطية مقبلة.
وأوردت وكالة سبأ في نسختها الحوثية خبراً حول ندوة أقامها مكتب الإرشاد في أمانة العاصمة تناولت محاورها "مرتكزات التغييرات الجذرية" وأبرزها " القرآن الكريم كدستور تشريعي للدولة، والهوية الإيمانية وإقالة الحكومة وتشكيل حكومة كفاءات".
وفي الندوة أشار وكيل أوّل أمانة العاصمة الحوثي خالد المداني إلى دعوة الحوثي إلى "الرجوع إلى القرآن الكريم كمنهج حياة ودستور تشريعي، ومنطلق في التغييرات الجذرية"، ما يعني عدم الاحتكام إلى القوانين والتشريعات وإنما إلى نصوص قرآنية عامة يفسّرها الحوثيون بشكل فضفاض حسب مصالحهم وأهوائهم وهو الأمر الذي سيطلق يدهم أكثر في تنفيذ مخطّطهم المذهبي والطائفي ويجعلهم في حل من أي رقابة أو مساءلة.
مراقبون سياسيون حذّروا من خطورة الأوضاع السياسية والعسكرية التي تمرّ بها اليمن والتي ستلقي بظلالها على المستقبل الذي يحلم به الشعب اليمني، والمتمثّل في إنهاء الحرب وتحقيق السلام الشامل والعادل والدائم الذي يلبّي تطلّعات اليمنيين في الحرية والديمقراطية والمواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية.
ورأى المراقبون أن الأيام الماضية شهدت عدّة تطورات من شأنها أن تحبط آمال اليمنيين في تسوية سياسية تعيد بناء الدولة على أسس حديثة وتحافظ على وحدته وهويته العربية والإسلامية وعلاقاته التاريخية مع جيرانه والدول الشقيقة والصديقة.
ويخشى اليمنيون الذين يطالبون المجتمع الدولي بممارسة مزيد من الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية على الحوثيين للانصياع لخيار السلام والجلوس إلى طاولة التفاوض لإنهاء الأزمة، من ممارسة ضغوط أخرى على الحكومة الشرعية للقبول بسلام هشّ لا يعالج جذور المشكلة ولا يحقّق المصلحة الوطنية العليا لليمن، وإنما يحقّق مصلحة ميليشيا تعتقد أنها خرجت منتصرة من الحرب وتهدّد بالعودة إليها في أي وقت تشاء.