آراء

مستقبل مجلس القيادة.. أزمة التفويض بين النص الدستوري وانهيار المركز السيادي

توفيق الحميدي

|
قبل 5 ساعة و 29 دقيقة
A-
A+
facebook
facebook
facebook
A+
A-
facebook
facebook
facebook

لا يمكن فهم مستقبل مجلس القيادة الرئاسي في اليمن إلا بالعودة إلى أساسه القانوني والفلسفة الدستورية التي حكمت نشأته. فالمجلس لم يكن نتاج مسار انتخابي أو تعديل دستوري، بل جاء بموجب إعلان نقل السلطة في الرياض عام 2022، بوصفه ترتيبًا استثنائيًا لمعالجة فراغ سياسي ودستوري عجزت النصوص التقليدية عن التعامل معه. وقد منح الإعلان المجلس تفويضًا لا رجعة فيه بكامل صلاحيات رئيس الجمهورية، في صيغة هدفت إلى إنتاج رأس موحّد للسلطة التنفيذية، قادر على إدارة الدولة وتوحيد القرارين العسكري والسياسي.

غير أن هذا التفويض لم يُمنح لأشخاص، بل لمؤسسة جماعية يُفترض أن تعمل كشخص اعتباري واحد. وهنا تتجلى الفلسفة الدستورية الجوهرية للمجلس: فالشرعية ليست صفة سياسية، بل وظيفة سيادية تقاس بمدى الالتزام بمتطلباتها. ومن ثمّ، فإن أي عضو ينحرف عن مقتضى التفويض، أو يدعم قوى مسلحة خارج إطار الدولة، لا يرتكب خلافًا سياسيًا فحسب، بل يُخلّ بأساس وجوده القانوني داخل أعلى مؤسسة تنفيذية.

إلا أن الانتقال من النص إلى الواقع كشف سريعًا فجوة عميقة بين ما أُريد للمجلس أن يكونه، وما أصبح عليه فعليًا. فمع أن النصوص جاءت واضحة، فإن المجلس لم يولد موحدًا ولا قادرًا على ممارسة صلاحياته بصورة منسجمة. منذ البداية، بدا أقرب إلى هندسة للصراع منه إلى مؤسسة حكم، جامعًا ولاءات سياسية وإقليمية متناقضة تتجاوز فكرة الدولة. وجاءت أحداث حضرموت والمهرة لتكشف هذا الخلل بوضوح، مع دعم بعض أعضائه لتشكيلات مسلحة خارج وزارة الدفاع، وانتزاع سلطات محلية من يد الدولة، وتآكل القدرة على فرض السيادة على الإقليم.

بهذا المعنى، لم تكن تلك الأحداث مجرد اهتزاز سياسي، بل لحظة كاشفة لانهيار المركز القانوني للشرعية. فالدستور اليمني يقوم على ثلاث ركائز: وحدة السلطة التنفيذية، واحتكار الدولة للعنف المنظم، ووحدة الجمهورية. وقد جرى تقويض هذه الركائز تباعًا. فعندما تنقسم السلطة التنفيذية، ويتفكك الاحتكار العسكري، وتظهر سلطات موازية، تفقد النصوص الدستورية معناها العملي، ويغدو المجلس عاجزًا عن ممارسة صلاحياته السيادية مهما احتفظ أعضاؤه بألقابهم.

ثم جاء اتفاق قصر المعاشيق ليكرّس هذا العجز بدل معالجته. فالترتيب الذي تم بدا أقرب إلى هدنة داخل التحالف السعودي – الإماراتي منه إلى خطوة لإعادة بناء الدولة. ظهرت الحكومة طرفًا ملحقًا بلا قدرة على فرض القرار أو حماية مركز الشرعية، فيما خرج المجلس أكثر ضعفًا، معلّقًا بين نص دستوري فقد فاعليته وواقع تُدار فيه السلطة من خارج بنيته.

ومن هنا، تتضح النتيجة المنطقية للأزمة. فالمجلس الذي لا يملك قدرة موحّدة على ممارسة التفويض الذي أنشأه يفقد مبرر وجوده. فالشرعية الدستورية لا تُمنح كامتياز سياسي، بل تُحفظ فقط بتحقق شروطها الأساسية: وحدة القرار، ووحدة السلاح، ووحدة الدولة. وإذا غابت هذه الشروط، يصبح المجلس قائمًا شكلًا فقط، بينما يدخل البلد في فراغ سيادي جديد يشبه الفراغ الذي سبق إنشاء المجلس نفسه.

وعند هذه اللحظة، يواجه مجلس القيادة جملة من السيناريوهات الدستورية المحتملة، لكن هذه السيناريوهات لا تشمل العودة إلى ما قبل إعلان نقل السلطة ولا استعادة صيغة الرئاسة الفردية أو عودة الرئيس عبدربه منصور هادي، فقد أنهى إعلان نقل السلطة لعام 2022 ممارسة الرئيس لصلاحياته بتفويض صريح ولا رجعة فيه، ونقل مركز الرئاسة بوصفه وظيفة سيادية إلى إطار مؤسسي جديد لا يعمل بمنطق الارتداد التلقائي عند التعثر. وفي الفقه الدستوري المقارن، لا يؤدي فشل الصيغ الانتقالية إلى إحياء الصيغ السابقة، بل يفتح فراغًا يستدعي إعادة تأسيس السلطة، كما لم تعد الرئاسات السابقة في تجارب اليمن 2012 أو لبنان 1988 أو العراق بعد 2003. ومن ثمّ، فإن استبعاد هذا الخيار ليس موقفًا سياسيًا ظرفيًا، بل نتيجة منطقية لانتهاء تلك المرحلة دستوريًا.

انطلاقًا من ذلك، يتمثل المسار الأول في استمرار المجلس بوضعه الراهن، حيث تبقى البنية قائمة بينما تنهار الوظيفة، كما حدث في لبنان عام 1988 أو الصومال بعد 1991، حين ظلت الشرعية اسمية وفقدت قدرتها على الحكم، فتحولت المؤسسات إلى هياكل فارغة وتآكل المركز السيادي تدريجيًا.

أما المسار الثاني، فيقوم على إعادة هندسة السلطة من الخارج عبر تسوية سياسية واسعة، كما في أفغانستان 2001 أو العراق بعد 2003، عندما أصبح تفكك المركز القانوني عائقًا أمام أي إصلاح داخلي، فكان الحل إعادة تأسيس السلطة التنفيذية بصيغة انتقالية جديدة، استنادًا إلى مبدأ الضرورة الدستورية واستمرارية الدولة.

ويبرز مسار ثالث يتمثل في تجاوز رأس السلطة عبر قوة محلية صاعدة، كما في عدن 1967 أو السودان 2019، حين فقدت السلطة القائمة قدرتها على التحكم بالمشهد، وانتقلت الوظيفة السيادية إلى قوى أمر واقع فرضت نفسها خارج الإطار الدستوري.

جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية
جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية